مقدمة العدد الرابع

الدكتور صالح المبارك
Consultant, author, public
speaker, and trainer in construction project management

بسم الله الرحمن الرحيم
مهنة بناء البيوت والأبنية والمنشآت الأخرى كالطرق والجسور هي من أقدم مهن التاريخ وقد كان المهندس المعماري والإنشائي والمقاول يجتمعون في شخص واحد يُسمّى البَنّاء. وعلم البناء تطور مع الزمن بالطبع سواء في المواد أو الآليات أو طرق البناء أو طرائق التصميم والتنفيذ.
ومنذ أطلّ علينا الحاسب الآلي )الكومبيوتر( في منتصف القرن الماضي بدأت تطبيقاته تخدم علوم البناء: التصميم والتنفيذ والإدارة فقد أتت برامج الرسم الهندسي الثنائي الأبعاد ثم تطورت إلى رسم ثلاثي الأبعاد وكانت هذه خطوة نوعية عملاقة. وبينما كان المصمم قبل استخدام الكومبيوتر يحتاج إلى إعادة رسم اللوحة بأكملها حين تكون هناك حاجة لتعديل أو تصحيح خطأ مما يزيد زمن الانتاج والكلفة أصبح ذلك سهلا وبسيطا وسريعا وبكلفة بسيطة باستخدام برامج الكومبيوتر.
وتطورت برامج الكومبيوتر من تصميم معماري و إنشائي وميكانيكي وكهربائي
إلى حساب كميات وكلفة إلى تخطيط وحساب الجدول الزمني إلى الإدارة والتواصل المهني ليصبح الكومبيوتر وشبكة الانترنت جزءا أساسيا من علم إدارة المشاريع.
أما فكرة البيم Building Information Modeling (BIM ( فهي في الواقع قديمة
نوعا ما ولكن لم تكن تحت ذلك المسمى ، فمنذ بدأت طرق المحاكاة Simulation
بالتطور وخاصة باستخدام الكومبيوتر ، بدأ العلماء والمبتكرون بتطبيق تلك الطريقة في تصوّر عملية البناء ومحاكاتها منذ البداية حتى النهاية بشكل يماثل الحقيقة لكنه يسبقها ويتم عرضه بدقائق قليلة كي يعطي فكرة مصوّرة لفريق التصميم والبناء عن عملية بناء المشروع وكيفية إجرائها ، وأذكر أن شركة بيكتل Bechtel
العالمية عرضت مقطع فيديو في مؤتمر في الولايات المتحدة الأميركية بهذا
السياق منذ أكثر من عشرين عاما ولم يرد خلاله ذكر كلمة بيم ولكن المنطق كان ذاته
وذكر صاحب العرض وقتها أن باستخدام ذلك المنهج يتم تفادي مشاكل كثيرة عادة
ما يواجهها المقاول أثناء التنفيذ. الفكرة كانت تواجه تحديات كبيرة منها تشارك
وتداخل كميات هائلة من المعلومات من جهات متعددة كالتصميمات المعمارية
والإنشائية والميكانيكية والكهربائية وغيرها مع المواصفات مع الأبعاد الثلاثية مع
الكلفة مع الجدول الزمني مع معلومات أخرى ، والإمكانية تبقى متاحة دائما للزيادة
والإضافة. الفكرة كان لا بد لها من أرضية قوية لتحمّلها ودعمها ، هذه الخلفية
تأتي من البرامج الحديثة للبيم التي تتطلب أيضا أجهزة كومبيوتر قوية وشبكة
انترنت تستطيع أن تستوعب ذلك الكمّ الهائل من المعلومات وأن تسمح بانتقال تلك المعلومات بأقنية مناسبة سريعة كي تؤدي الغرض الذي أوجدت من أجله.

وهكذا تطورت أنظمة البيم لتصبح شبكة ضخمة تُسَيّر وتوجه المعلومات حسبما
يوجهها مستخدمها لتؤدي خدمة ما كان الجيل السابق يحلم بها ، فالمستخدم يمكن
أن يرى كل قطعة وكل جزئية من البناء بشكلها وحجمها ومواصفاتها الحقيقية
توضع في مكانها ، ويرى تشابكها وتكاملها وتقاطعها مع أجزاء المبنى الأخرى
وبنفس التسلسل الزمني وهذا ما فتح آفاقا جديدة لاكتشاف المشاكل والعيوب
والتداخلات ، وبالتالي أعطى الفرصة لفريقي التصميم والبناء لتفادي هذه المشاكل ولتحسين التصميم وطرق البناء قبل أن يبدأ المشروع ، بل إن قدرة مالك المشروع في إبداء الآراء وإعطاء المقترحات مبكرا صارت ممكنة مع قدرة فريق التصميم والتنفيذ على إعطاء المالك نقدا وتقييما لمقترحاته في هذه المرحلة المبكرة ، مؤديا بذلك خدمات رائعة منها تقليل زمن الإنجاز وتقليل الكلفة وتحسين النوعية والأداء. هذه كله أدى إلى درجة أعلى من التعاون والتواصل بين الجهات العاملة في المشروع كالمالك والمصمم والمقاول ومشرف التنفيذ.
من مزايا البيم أنه يعتبر مركز تواصل بين البرامج الأخرى كالتصميم CAD وبرنامج
الجدولة الزمنية )بريمافيرا أو مايكرو سوفت بروجكت مثلا( وبرامج حساب الكميات
والكلفة المالية وغيرها ، ولا يتطلب إعادة برمجة ولا أن تدمج البرامج أو أن تكون
لغتها موحدة ، بل تُستخلص المعلومات منها ليضعها مدير البيم معا في نظام واحد
يخدم الهدف المشترك بينما يبقى كل برنامج مستقل بذاته.
هل نعتبر البيم نهاية ما يمكن أن يطوره الإنسان في علم البناء؟ بالتأكيد لا ، فالبيم
هو محطة مهمة أدت خدمات جليلة يجدر بنا الاستفادة منها قدر الإمكان ولكن
العلم لا يتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها وكلما تعلم الإنسان كلما اتسعت
مداركه وصار بإمكانه أن يقدم خدمات أكبر للإنسانية وهذا ما أراده الله تعالى لنا من
أن نستزيد من العلم لنخدم البشرية: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟